الشعر بين الميتافيزيقيا والبحث عن الحرية

[size=18][/sizeالشعر بين الميتافيزيقية والبحث عن الحرية
ريتشارد لوفليس الفارس الوسيم

أنا حر أكثر من الطيور

TINO LUCIANO 4


سلوى جراح








الميتافيزيقية في الشعر الإنكليزي مدرسة شعرية من القرن السابع عشر، تضم مجموعة من الشعراء، أشهرهم جون دون 1572 1631 الشاعر والكاتب الساخر، والمحامي، ورجل الدين. كتب الغزل والرثاء والسخرية والمدائح الدينية والشعر الغنائي وجاء شعره في كل أشكاله قوياً متميزاً مؤثراً، في سعة خياله وجمال لغته. ولعل أشهر مثال على الخيال الجامح لدى جون دون، قصيدته الشهيرة البعوضة . امتصت بعوضة دمه ثم لسعت حبيبته، فاختلطت قطرات دمهما في جسد البعوضة الصغير، فكأنها جمعتهما في رباط يشبه الزواج . يقول جون دون في قصيدته البعوضة
صارت ثلاث حيوات في واحد» وصرنا بها أكثر من زوجين» هذه البعوضة هي أنت وأنا وبها اكتمل سرير عرسنا ومعبد حبنا.
قصائد خالدة
ورغم أن الشعراء الذين يصنفون على أنهم ميتافيزيقيون، لم يعرفوا بعضهم ولم يطلع معظمهم على نتاج الآخرين، رغم ذلك يصنفون ضمن مدرسة واحدة لأنهم استعانوا بجموح الخيال الشعري للتعبير عن الذات وتقديم إجابات فلسفية للميتافيزيقية كما شرحها الفلاسفة القدماء، البحث عن الذات في الوجود ومحاولة الإجابة عن الأسئلة الملحة، أين ومتى ولم؟ كما مهد الشعراء الميتافيزيقيون الطريق للرومانسية الشعرية، وكل ما فيها من تعبير عن دواخل النفس. حين تعرفت على الشعراء الميتافيزيقيين خلال دراستي الجامعية استهواني شاعر يختلف كثيراً عن جون دون، بل يصنفه بعض النقاد ضمن شعراء الميتافيزيقية الأقل أهمية. فنتاجه الشعري لا يتعدى المئتي قصيدة. لكنهم لا ينكرون ما في شعره من ميتافيزيقية وخيال يفرض الاحترام، إنه ريتشارد لوفليس 1618 1657 الذي لم تمتد حياته لأكثر من تسعة وثلاثين عاماً ومع ذلك ترك قصائد خالدة ما زال بعض أبياتها يدور على الألسنة.
كان لوفليس رجلاً وسيماً عشقته نساء كثيرات، وفارساً من فرسان ملك إنكلترا تشارلز الأول، حارب إلى جانبه في سني الحرب الاهلية ضد أوليفر كرومويل وقواته. أسرته عريقة غنية لها تاريخ في الخدمة العسكرية. والده السير وليام لوفليس، عسكري وتاجر غني، قتل في الحرب حين كان شاعرنا في التاسعة من عمره. تلقى ريتشارد لوفليس تعليمه في جامعة أوكسفورد وكان مثار إعجاب الكثيرين لدماثة خلقه، ومحافظته على شخصية الشاعر الفارس، خاصة وأنه التحق بخدمة الملك منذ سن الثالثة عشرة، وفي سن الحادية والعشرين أصبح كافالير أي من فرسان الملك والتحق بالخدمة العسكرية.

شاعر ملكي جداً
كتب لوفليس قصائد في مديح من يحب من شعراء وفي الحب والحزن على فقد الحبيب، وفي تحليل العلاقة بين الرجل والمرأة، خاصة ما يستهوي الرجل من مديح النساء له، كما أجاد الاحتفاء بالجمال. لكن حياة لوفليس الشاب أخذت منحى جديداً حين دخل عالم السياسة، فصار شعره مفعماً بمشاعره الموالية للملك والأسرة المالكة، ومارس النشاط السياسي دفاعاً عن الملكية، خاصة مع نشوب الحرب الاهلية التي استمرت من الاعوام 1642 وحتى1651 بين من يعرفون بالبرلمانيين بقيادة أوليفر كرومويل والملكيين الذين كانوا يساندون الملك تشارلز الاول. ثم انتهت الحرب بانتصار البرلمانيين وإعدام الملك شارلز الاول أمام مبنى البرلمان البريطاني، ونفي ابنه تشارلز الثاني لتصبح إنكلترا جمهورية حتى عام 1653، تحت قيادة أوليفر كرومويل. وما زال تمثال أوليفر كرومويل على حصانه يقف أمام مبنى البرلمان البريطاني في ويستمنستر، شاهداً على تلك الأحداث التاريخية المهمة، التي غيرت مفهوم الحكم في بريطانيا. لم يعد الملك يحكم دون البرلمان. وكل من تعاقب بعد ذلك من ملوك بريطانيا، كان عليهم أن يلتزموا بهذه القاعدة السياسية. فملكة بريطانيا اليوم تعتلي العرش، لكنها لا تحكم. وحين تفتتح البرمان كل عام في الخريف بعد عطلة البرلمان الصيفية، عليها أن تقرع باب الغرفة التي يجتمع فيها مجلس العموم بعد أن يغلق في وجهها وتستأذن للدخول، كرمز لاهمية البرلمان كحاكم فعلي للبلاد.
ريتشارد لوفليس كان ملكياً حتى النخاع منه، وصارع البرلمانين وانتهى به الامر في السجن مرتين، خلال سني الحرب الاهلية. حين دخل السجن لأول مرة كتب واحدة من أجمل وأشهر قصائده إلى ألثييا من السجن التي يعكس فيها حبه ونبله ووفاءه للملك الذي لم يعد قادراً على الدفاع عنه. ولعل أشهر الأبيات من قصيدته إلى ألثييا من سجنه قوله
حين ترفرف أجنحة الحب الطليقة داخل بواباتي» وتجلب جميلتي ألثيا لتهمس بلا مقابل» وحين استلقي ملتفاً بشعرها» سارحاً في عينيها الطيور التي تحوم في الهواء لا تعرف حرية كحريتي» الجدران الحجرية لا تصنع سجناً» ولا تصبح القضبان الحديدة قفصاً» فالعقول البريئة الهادئة» تحول كل ذلك إلى ملاذ» إن كنت حراً في حبي» حراً في روحي» فالملائكة وحدها التي في الأعالي» تتمتع بحرية كحريتي.
كتب ريتشارد لوفليس قصيدته تلك عام 1642 ولا أحد يعرف من هي ألثييا التي قد تكون من بنات خياله كما عودنا الشعراء، لكن بعض الدلائل تشير إلى أنها قد تكون سيدة اسمها لوسي ساشيفيريل. مهما كانت شخصية ألثييا فقد خلدت سجن لوفليس.
لوكاستا
بعد ستة اعوام دخل لوفليس السجن من جديد وظل بين جدرانه عاماً كاملاً، وحين أطلق سراحه كان قد تم إعدام الملك شارلز الاول وخسر لوفليس قضيته التي حارب من أجلها سنين عمره، فأطلق مجموعته الشعرية الاولى التي تحمل عنوان لوكاستا . ويختتم قصيدته التي تحمل عنوان إلى لوكاستا وأنا ذاهب للحرب
لا تقولي يا حلوتي إني قاس» لأني أفارق طهر نهديك وهدوء فكرك» وأهرع للحرب والسلاح» صحيح إني في خدمة حبيبة جديدة» أول خصم في المعركة» أضمه مع اختلافنا» بسيف وحصان ودرع»
لكن هذا التناقض القائم» كأنك ستحبينه أنت أيضاً» فما كنت لأحبك يا غاليتي بهذا القدر» لو لم أعشق الشرف أكثر.
بالمناسبة لا أحد يدري حتى اليوم من هي حلوة ريتشارد لوفليس لوكاستا.