حضور الشعر في بنية الثقافة العربية راسخ فعلاً. فالشاعر في العصر الجاهلي لم يكن لسانَ حاله بل لسان القبيلة؛ يشِيد بأيامها و يخلّد أمجادها و يحمي أعراضها. و لذلك كانت القبيلة إذا نبغ فيها شاعر أتتها القبائل مهنِّئة. لكن مع انطلاق علوم اللغة و النقد و البلاغة و الفقه و التفسير و الحديث و الفلسفة بدءا من أواخر القرن الثاني الهجري و تشييد الدواوين و بروز مكانة الكاتب، تراجع وضع الشاعر المبجَّل و تحوَّل إلى صانعٍ مبدع يجيد اللغة و يبدع في تشكيل صورها، خاضعاً لسياق التداول الذي يملي عليه النموذج المكتمل و شروطه في كل أغراض الشعر.
و غير بعيد عن ما نعته جمال الدين بن الشيخ بمفهوم "القدامة الجديدة"، و هي المدرسة التي يراها صالحة للفترة الممتدة من القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر الهجري، يبدو أن الشعر قد ظلّ حاضراً طيلة هذه القرون مراوحاً بين ثوابته و تحولاته، مراهناً على إشعاعه المواكب لكل الأجناس الإبداعية التي حايثـته أو بزغت في ظل حضوره الراجِح من أدب المقامات و النوادر والأمثال و السرد و النثر الترسُّلي و المناظرات و الرحلات و السير، و الرواية و القصة و المسرح و المقالة و غيرها.
لم يُطرح في أي لحظة من ذلك المسار الإنتاجي الممتد في الثقافة العربة، سؤال صراع الأجناس الأدبية. و رغم أن الشعرية العربية لم تشيِّد نظريتها و إنما بـنتْ على متن الشعر حواشي العلوم المختلفة، التي استدعاها الانتقال من ذاكرة الحفظ و الرواية إلى طور الكتابة و التقييد. فإن المفاضلة كانت في ذلك السياق محسومةً للشعر لأنه النتاج الأول. غير أنّ ما بلَـغـنا من صورة الشعر الجاهلي لا يعني أن مفهوم الشعر، وفق ما كان شائعاً، لم يكن يملك إلا تلك الصورة الوحيدة، بل إن الغلبة كانت للأقوى الذي رسّخه الدرس اللغوي لاحقاً لحظة جمع المتن اللغوي بالرواية و المشاف�
�ة و الاستقراء.
ماذا بعد كل هذا، عن لحظتنا التي تصرّ على وضع الشعر في مواجهة الرواية ضمن حلبة صراع مصطنَع، يغدو أمامها المتلقي مشاهداً يتابع عن بعد دون مشاركة فعلية؟
الشعر لم يعد جماهيرياً مثلما كان في الغنائية العربية و الملحمية الإغريقية اللاتينية والتراث الإبداعي لشعوب عديدة. أمّا الرواية فتُـثْـبِتُ جماهيريتها الآن عالمياً يوماً بعد يوم . أيعني ذلك أن الشعر لم يعد الأنسب للتعبير عن ضمير الأمة؟
لا شك أن حلقات الشعر الحيّة تنتِج مسالك بقائها و خلودها في كل الأزمنة، ذاك ما يقوله ثباتُ منظومة الشعر المتطورة في كل مسارات الإنتاج الإنساني الممتدة.
الذي لا يرغب في التغيُّر هو منطق الإقصاء. كان في زمن سابق يشتغل علناً لصالح الشعر، و اليوم يشتغل في الخفاء لصالح الرواية.
في ظل غياب الدراسات السوسيوثقافية للقراءة و لتداول الكِتاب، و هي في واقع الأمر إمكان ممتنع لكون فعل القراءة الرّاسخة بدورها إمكان ممتنع تمنعه الأمية و الانشغال بالعيش و نخبوية الثقافة، لا يمكن الحديث عن وضع الشعر على مستوى التلقي و القراءة، عِلماً بأنّ الشعر لسبب تعرفه فحسب سطوة الناشرين العرب قد غدا عدوَّ المطبعات.
العالم الرقمي لا ينفث الكراهية ضد الشعر و التقنيات المتلاحقة لا تكيل له الحقد، بل على النقيض، الوسائط المتعدِّدة التي تشغل الناس اليوم تقتات في إنتاجاتها الجماهيرية على الشعرية، غير أن عين التلقي لا تدرك "القصائد العديدة" التي يبدِعها الشعر بروحه العظيمة المعطاء، خارج ما ينعته النقاد الأجلّاء بـ"جنس الشعر".
ـ سعيدة تاقي كاتبة و ناقدة مغربية