مقالة في ابي الخصيب

ان أبو الخصيب بستانا بهي الطلعة يستلقي على ضفاف شط العرب ويحتضن أجمل أنهاره. ويحمل على أكتافه جنائن خضراء, تختال أمام محبيها وهي ممتلئة بالحب والعشق والعنفوان. كان متنزها مخمليا لأغنى غابات الأشجار, ومرتعا وارفا لعمتنا النخلة التي تربعت هناك بمقامها المهيب فوق تربة الحدائق الخصيبة. لا يخترق هيبتها سوى زقزقة العصافير المتطايرة في حديث ود مع رؤوس النخيل الشاهقة. . اشجار تتسامق بسيقانها الباسقة لتعانق صواري السفن والمراكب. وترتوي من سلسبيل الغدران والترع والجداول التي تفيض بالماء الزلال, وتتدلى على ضفافها شجيرات ورد الدفلى والرازقي, فتنبعث منها أطيب العطور الممتزجة مع شذى الحقول ورائحة الجنائن وعبق زنابق الماء. وتعطي أهلها أحلى ثمار البرحي, وأشهى رطب القنطار, وألذ تمور الخستاوي. .
حقول تزخر بمحصول التمر من كل صنف ولون. . وتمور تمتاز بجودتها, ومذاقها الخاص, وطعمها المشبع برحيق الدبس, ونكهتها التي لا تنسى. .
غابات ساحرة تستقبل الزائرين والباحثين عن الفرح. ويستطيع المتجول فيها أن يبدأ مشوارا غنيا مليئا بالمفاجئات . . فالتجوال في غابات (أبو الخصيب) له متعة خاصة. .
تتلوى طرق وانهار (أبو الخصيب) بمنعطفات وانحناءات متناغمة مع خرير الماء, ومنسجمة مع مواويل البحارة وأهازيج الفلاحين. ومتعاطفة مع الإيقاعات المتأرجحة للتيارات المائية بين مد وجزر . . طرق وانهار متألقة دوما. وجداول تشرح الصدور, وتخطف القلوب والعقول بسحرها الفريد, وتسرق من محبيها الوقت, ويغار منها الجمال نفسه. .
تنتصب أبنية أبي الخصيب الأنيقة, التي بنيت من خشب الصاج والأبنوس على طراز الشناشيل(1), بإطلالتها البديعة, التي تشتمل على قدر كبير من الذوق الفني الرفيع, وروعة البناء. وبتصاميمها الخشبية التي تسر الناظر , وبهندستها المعمارية القديمة. إنها حقا تحفة معمارية نادرة, إلى جانب قيمتها التراثية والتاريخية. .
ينفرد أبناء (أبو الخصيب) ببساطتهم, وقناعتهم بما منحهم الله من خضرة ونخيل وماء وأرض خصبة. حتى ظن بعضهم إن التسمية نابعة من خصوبة التربة وثرائها. والحقيقة إنها سميت بأبي الخصيب نسبة إلى مرزوق أبو الخصيب (2), وهو مولى من موالي الخليفة العباسي (أبو جعفر المنصور). . .
أما ضواحي (أبو الخصيب) فهي عبارة عن سيمفونية رائعة, تجمع بين العمق الحضاري الأصيل, والإبداع في الثقافة والآداب, بتناسق عفيف يهيمن على الوجدان, ويخاطب الروح والقلب والضمير. .
تنتشر على شواطئ (أبو الخصيب) مرابط السفن العملاقة, والأرصفة البحرية المتمثلة بميناء أبو الفلوس, ورصيف الأسمدة الكيماوية. . وارتبطت مراسي الصنكر واللبّاني والخورة, منذ زمن بعيد بالموانئ والمرافئ العالمية. وصارت همزة الوصل التي تجمعنا بالسفن التجارية, وبخطوط الشحن البحري . .
وكانت شواطئ (أبو الخصيب) تعج بالحركة التجارية والزراعية. فهي المنطقة الأكثر إنتاجا للتمور في العالم العربي. وكان لوقوعها على ضفاف شط العرب الأثر الكبير في اكتسابها شهرة مينائية واسعة, وفي تسهيل عمليات تصدير منتجاتها الزراعية إلى الموانئ العالمية عبر البحار والمحيطات. .
لكنها أصبحت الآن في حالة مزرية, وتمر بأوضاع متردية, مثلها مثل حال الريف العراقي البائس. فما بالك وهي تتموقع في أقصى الجنوب, وتنزوي في دفاتر النسيان. وهي التي شهدت من ويلات حروب الخليج الثلاثة ما لم تشهده الحقول الفيتنامية والمزارع الكمبودية من إتلاف وتدمير وتجريف وتصحر وتلوث وتهديم. .
وتحمّل نخيلها وزر حرب الثماني سنوات. فتشرد أهلها, وتضررت بساتينها, وتحطمت جسورها وتكسرت معابرها, وردمت أنهارها, وامتلأت جداولها بالأملاح والترسبات الطينية .
وتعرضت مزارع (أبو الخصيب) إلى حملات تخريبية متعاقبة تمثلت بتقطيع تيجان النخيل, وتكسير أعناقها, وإحراق أجسادها, واجتثاث عروقها, وردم سواقيها, وطمر أنهارها, وتلويث بيئتها, وتهجير مزارعيها. . وتحولت البساتين إلى معسكرات للجنود أو ساحات للقتال. .
وتعطلت مكابس التمور, وتهدمت مخازنها الكبيرة. . وخسرت النخلة تعاملاتها التجارية العالمية, والتهمتها الآفات الزراعية, وسحقتها مقصلة الإبادة الشاملة. . ودفنت اشجار النخيل في مقابر جماعية, وهي متفحمة الأجساد مجزورة الرؤوس. . ناهيك عن عمليات السرقة التي طالت النخلة وفسائلها, بهدف تصديرها, أو تهريبها خارج العراق. .
واقتلعت أفضل أنواع النخيل بحجمها المثمر, ونقلت إلى أماكن بعيدة عن موطنها الأصلي, لتغرس في حدائق الأثرياء والموسرين. .
وتراجعت أعداد النخيل في البصرة من 13 مليون إلى ثلاثة ملايين نخلة, وبعضها لم يعد مثمرا. . وخسر العراق جزءا كبيرا من مدخولاته الوطنية من تصدير التمور. وتسببت تلك الحملات بفقدان التوازن البيئي الطبيعي. وباتت غابات النخيل مهددة بالانقراض, وان أجناسا منها لم تعد موجودة على الأرض. .
وتردت أوضاع مختبرات التمور, ومراكز أبحاث النخيل. وتعاني الآن من النقص الشديد في الأجهزة والمعدات والخبرات. وحاجتها إلى إرسال كوادرها للتدريب خارج العراق على تقنيات تكاثر اشجار النخيل بطرق الزراعة النسيجية. .
وألغيت المؤسسات الحكومية المختصة بغابات النخيل, وفي مقدمتها مصلحة التمور العراقية, منذ ثمانينات القرن الماضي. واختفت لجان التعويض, والدعم الزراعي. . وتعرضت المعدات الحقلية إلى شحة الوقود, ونقص الطاقة الكهربائية. .
وغادر الفلاح حقوله وبساتينه نحو المدن البعيدة, ليبحث له عن مصادر بديلة للعيش, ويغطي الاحتياجات البسيطة لأسرته الفقيرة. ولم يعد يهتم بأشجاره التي صارت مجرد أعجاز نخل خاوية. . ومنهم من اضطر إلى بيع أرضه لبعض المترفين لكي ينتهكوا عذريتها ويحولوها إلى شاليهات للراحة والاستجمام. .
وقد اكتشفنا إن هنالك علاقات وطيدة, تجمع كل عناصر الخير والعطاء والازدهار في رابطة مباركة متأصلة في جذور (أبو الخصيب). . تتمثل بمثلث الخصب والعطاء الذي يتألف من ثلاثة أضلاع هي : (( شط العرب, والأرض, والإنسان )) . .
فشط العرب هو النهر الكبير الذي تتفرع منه كل النهيرات والجداول التي تروي تلك الجنائن المزدهرة بماء يتدفق كالشهد النقي. .
والأرض في (أبو الخصيب) ثرية غنية خصيبة وفيرة العطاء. . .
والإنسان في (أبو الخصيب) هو القلب الصافي, والعقل النيّر, والابتسامة النقية, والروح المرحة, والنفس القنوعة. وهو الفلاح الودود المتسامح . .
وعندما تكون العلاقة ضاربة في عمق الماء والأرض والإنسان. . وتجتمع فوق هذه الجنة المزدانة بالحدائق والبساتين والأنهار العذبة. . فأن في ذلك يكمن سر الإبداع والارتقاء والتفوق والعطاء الدائم. . لذا فان فقدان أي ضلع من هذه الأضلاع الثلاثة سيؤدي حتما إلى انهيار مثلث العطاء بالكامل. . فما بالك إذا فقد المثلث كل أضلاعه, وخسرها نهائيا. . عندئذ نكون أمام نتيجة كارثية ومأساة حقيقية. . وهذا ما آلت اليه أحوال بساتين (أبو الخصيب), بعد أن فقدت كل مقوماتها الكامنة في مثلث العطاء. . وصار شط العرب من اكبر مستودعات النفايات في العالم. وطغت عليه الملوحة, وامتلأت تفرعاته النهرية بالترسبات والأوحال. .
واستبيحت أراضي (أبو الخصيب) وصارت من اخطر خطوط المواجهات الحربية الشرسة. ومزقتها الصواريخ والطائرات. وبنيت عليها السواتر الترابية, والثكنات العسكرية. وتحولت أنهارها إلى خنادق قتالية تغص بالمخلفات والنفايات الحربية. .
إما إنسان (أبو الخصيب) فقد لاذ بالفرار فزعا وروعا من الأهوال التي واجهها. وتشرد من دياره, ثم اجبر على مغادرة بساتينه. ولم يعد قادرا على مزاولة مهنة الآباء والأجداد. .
تلك هي صورة (أبو الخصيب) منذ عام 1980. وهذا هو الواقع البائس. . فقد تلاشت كل أضلاع مثلث العطاء, وتحطم المثلث بالكامل على صخور التخريب والتخلف والإهمال, ولم يعد له أي وجود في الوقت الحاضر. .
ختاما نقول إن النخلة في المفهوم الاقتصادي, هي ثروة لا يمكن إهمالها من مدخولات أي بلد. سيما وان أهم موروث زراعي في الدولة العراقية برمتها بات معرضا للانقراض, وتهدده مخاطر كارثية. .
ومن غير المعقول أن تفرط الدولة العراقية ومؤسساتها الوطنية, بجنائن (أبو الخصيب), التي تعبر عن هذا المفهوم المتكامل لعوامل ومقومات الطبيعة, والجمال, والتراث, والتاريخ, والمعارف, والثقافة والفنون والآداب, والملاحة, والزراعة, والتجارة, والصناعات اليدوية, والسياحة الترفيهية. .
لذا فإننا نرى أن موضوع (أبو الخصيب) يعتبر من المواضيع التي ينبغي أن تحظى باهتمام كبير من لدن الحكومة المركزية. . فضواحي وقرى (أبو الخصيب) جديرة بالعناية الفائقة, والرعاية الشاملة. لما تمثله بساتينها الوارفة من أسرار عميقة ومحتويات عظيمة. . _____________________________________________________
الهوامش :
(1) – الشناشيل كلمة فارسية مركبة من " شاه نشين " بمعنى محل جلوس الشّاه. وتعتبر الشناشيل من الظواهر الرئيسية والمألوفة في البيوت البصرية. وهي تدلّ على الثراء.
(2) - ولاه أبو جعفر المنصور على البصرة عام 126 هـ . ولهذا الوالي قصر اسماه ( قصر أبو الخصيب), يقع في نواحي الحيرة من ضواحي محافظة النجف الأشراف.