فرض تطور الشعوب سياقا معرفيا هو تفتيت الكتل والسرديات الكبرى، فمنذ عصر الأنوار وحتى اليوم، يواصل الإنسان الغربي، تفتيت الكتل الكبيرة، وجعلها كتلا صغيرة تستوعب طموحات التجمعات الصغيرة، وهو ما يشكل النقلة الفكرية والفلسفية المهمة في حياة البشرية، حيث كانت الكليات تتحكم ليس بحياة البشر فقط، إنما بقوته وثقافته ومسكنه وعمله، أصبحت حياة الإنسان اليوم تتحكم فيها آليات تقسيم العمل والوظائف المؤقتة والثقافة السريعة المعلبة، حتى وصل التفتيت إلى ساعات اليوم الواحد، فاليوم المؤلف من 24 ساعة، أصبح يتكون من 24 ساعة منفصلة، وأصبح لكل ساعة ثمن وطريقة عمل، لذلك لم تأخذ اليوم بكامله، بل قطعته إلى أوقات، وهكذا عمدت المنشآت والمؤسسات الإنتاجية في أوروبا إلى التعاقد مع العمال لعدد من الساعات في اليوم، ولأن الاعمال التقنية خاصة الكهربائية والاتصالات والبناء، دقيقة وصعبة، أصبحت أجور الساعة لها بحدود 50- 70 يورو، بينما ساعة عمل لجني الزهور من الحدائق، لا تتجاوز أجرتها بين 5-8 يورو.
2
يتحدث النقد وتياراته الفلسفية عن رواية القرن التاسع عشر، التاريخية والواقعية، ويجد أنها كانت تعالج قضايا الإنسان الكبرى:الأسرة، الاقتصاد، الطبقات، المهن، الدين، الأخلاق، الاستغلال، الموت، الحياة، الحب، المال. وبنى النقد والفلسفة على هذه الكليات أسئلة الحداثة، ووضع المشرعون الأسس المعرفية للمفاهيم والمصطلحات المهمة، وأسندوا بحوثهم بالمرجعيات اليونانية وأسسها الفلسفية، وكانوا يضعون تطور المدينة وعلاقاتها في صلب أي تحديث، كالعمارة، والمدينة، وشهدت أوروبا في القرن التاسع عشر بناء المراكز السكنية والخدمية الكبيرة، وتوزع الناس على مسافات منها بحيث يمكنك أن ترى المدينة عبارة عن كتل ضخمة، وبالجوار منها هذه كانت الأفكار الكتلية الكبيرة تأخذ طريقها لبناء الايديولوجيات الكبيرة:الرأسمالية، الاشتراكية، القومية، الشركات المتعددة الجنسيات، الأديان الكبرى، السرديات الكبرى. وسط هذه البنية، نشأت ثقافة كبرى تغطي ليس احتياجات الإنسان في تلك البلدان، بل ما يمكن تسويقه وتحويله إلى شريحة استغلالية مطلقين عليها الثقافة الكولينيالية، وهكذا نجد القرن العشرين يعيش وسط هذه الكليات، وما الحروب العالمية إلا جزء من نزعة الهيمنة الكتلية الكبيرة، وعلى الرغم من فشل هذه النزعة الكتلية التي كانت من نتائجها النازية والفاشية، إلا ان الدول المهيمنة لا تزال تعتمدها صيغة معاصرة في رؤيتها وتعاملها مع الشعوب الأخرى.
3
اليوم ثمة نهضة فلسفية وفكرية كبيرة، قد لا نعي أبعادها ولكنها تطالنا شئنا ذلك أم ابينا، وهي البنية التجزيئية للأشياء وللأفكار، كما جرى تجزيء الأسواق والسلع والمصانع وتوزيعها بناء على رخص الأيدي العاملة وقربها من التجمعات السكانية، للهيمنة على نقود وأسواق البلدان غير المنتجة، ومن ثم إلغاء هويتها الوطنية عبر إلغاء منتوجها الوطني وثقافتها والكيفية الاجتماعية التي تبني بها شخصيتها. ومن يتصور وجود الأسواق العالمية بنسختها المحلية تنشيطا للسوق المحلية، كما تعتقد إمارات الخليج العربي، فهو على وهم كبير، ان هدف هذا الانتشار هو المساهمة في تفتيت الثقافة الوطنية، وجعلها ثقافات تتبع ما تنتجه الأسواق من سلع للجسد والفكر والصحافة والغذاء والتنقل، ومن هنا انتبهت اليابان لهذا كله ووضعت سياقات عملية.. أن تنشئ بموازاة الأسواق العالمية أسواقها، وبموازاة الثقافة الكولينيالية ثقافتها، وبموازاة ثقافة الدول الأوروبية سينماها وصحفها وروايتها وأشعارها، فالمحافظة على الهوية الوطنية ليس بالقدرة المالية التي تتسرب منا دون منهجية علمية الى جيوب الآخرين، إنما بالكيفية الفلسفية والفكرية التي ندير بها ثرواتنا.