يفصل قرن من الزمن بين متشائمين كبيرين في تراثنا العربي الاسلامي أولهما ابوالعلاء المعري وثانيهما عمر الخيام الذي تربطه صلات وثيقة بالشعر العربي، فهو وإن كتب أكثر مؤلفاته الفلسطينية والشعرية باللغة الفارسية، إلا ان له شعرا بالعربية ايضا، الأمر الذي يفيد بانه اطلع على التراث الشعري العربي، وبخاصة على تراث المعري بالذات نظرا لوشائج القربى الكثيرة بينهما، ومن وشائج القربى هذه انهما عانيا معا القلق الميتافيزيقي وزاوجا بين الشعر والفلسفة، وعاش كلاهما وجودا اسيانا، ورفضا الزواج عن مبدأ.على أن أهم ما يجمعهما بنظرنا هو نظرتهما المتشائمة الى الحياة والوجود عينه، وان كان هناك فرق جوهري بين تشاؤم كل منهما، فتشاؤم المعري تشاؤم اسود خال من الضوء والرجاء، في حين ان تشاؤم الخيام تشاؤم ابيض مليء بالبهجة والسرور، ولو ان وراء التشاؤمين سؤالا مرا عن المصير البشري، ولكن اذا كان هذا الحكم صحيحا الى حد بعيد، فانه ليس حكما جازما لا يقبل أي طريق من طرق المراجعة، ذلك أن هذين الشاعرين والمفكرين الكبيرين، وإن ألحقا أحيانا بزمرة الزنادقة والعصاة ومفكري البعث والمعاد والحساب، فان الباحث في تراثهما لا يعدم مسالك أخرى لفكرهما، هي مسالك اليقين والايمان، ولعل الصحيح في أمرهما هو انهما كانا يمران بحالات نفسية أو فكرية قلقة فيعمدان الى تسجيلها شعرا، دون ان يقطعا صلاتهما بينابيع الروح والوجدان، فالايمان عندهما هو الأصل.والواقع ان من يقرأ نتاجهما الشعري على الخصوص، يجد ان الخيام أخذ الكثير من الأفكار عن المعري، لا مجرد خطه التشاؤمي، أبيات عديدة للمعري وجدت طريقها الى الخيام فنظمها شعرا بالعربية حينا وبالفارسية في أكثر الأحيان.ولكن تشاؤم الخيام يختلف بمجمله عن تشاؤم المعري، فلسان حال الخيام بصورة عامة هو التالي:اذا كان مصيرنا بعد حين هو القبر، فلا بأس بان نستعين على قضاء هذه الحياة الدنيا باللذة على كل صعيد، وباللذة الحسية قبل سواها، في حين ان تشاؤم المعري تلخصه الأبيات التالية:خفف الوطء ما اظن أديم الأرضالا من هذه الأجسادتعب كلها الحياة فما أعجبالا من راغب بازديادسر ان استطعت في الهواء رويدالا اختيالا على رفات العبادأي أنه تشاؤم ينفض يده من هذه الدنيا كما ينفض يده من تلك. فالحياة تعب وتكاليف ومرارات و"الله صورني ولست بعالم، لم ذاك؟ سبحان القدير الواحد" المعري لا يريد أن يغرق في ملذات هذه الدنيا على النحو الذي غرق فيه، أو دعا اليه، الخيام، فأغرق نفسه، كما أغرق قارئه، بالجانب المظلم الأسود من الحياة وكأنه يرى العدم افضل من الوجود، وما هكذا نظرة الخيام وفلسفته رغم اسئلته وهواجسه.على أن من أبرز الأبيات التي يبدو فيها الخيام وكأنه مقلد بسيط للمعري، بيته الشهير الذي تغنيه أم كلثوم:فامش الهوينا ان هذا الثرىمن أعين ساحرة الاحوراروهو بيت يكاد يكون ترجمة حرفية لبيت المعري:خفف الوطء ما أظن أديم الأرض الا من هذه الأجسادولكن بيت الخيام لا يختزن العنف الذي يختزنه بيت المعري، فهو أميل الى التأمل الحزين بالمصير البشري منه الى الاحتجاج المددي عليه وهو دعوة الى السير برفق وتؤدة على التراب لأنه مكون من أعين ساحرة الاحورار، وطالما ان مصير البشر جميعا الى هذا التراب فلماذا نرفض مجلس المسرات على أنواعها ولا نجتلي جمال دنيانا:غد بظهر الغيب واليوم ليوكم يخيب الظن في المقبلولست بالغافل حتى أرىجمال دنياي ولا اجتلي..الدنيا عند الخيام مائدة تضج بالمسرات، ولو ان هاجسا مرا يعصف في الضلوع، في حين انها عند المعري مدخل الى المرارة، والتعاسة والشقاء، كلاهما متشائم، ولكن شتان بين تشاؤم وتشاؤم. تشاؤم الخيام دعوة الى "الغياب" في لذات هذه الدنيا طالما ان النهاية الحزينة آتية لا ريب فيها، أما تشاؤم المعري فرفض لهذه الدنيا وشكوك مرة تملأ النفس وتستبد بالعقل، انطوى المعري في الثلاثة من سجونه ليراكم هموما فوق هموم، وزاد في اكفهرار أفقه التزامه سلوكا صارما لا أثر للمرأة فيه للخمرة وحتى لأكل اللحوم.. وما هكذا كان حال الخيام الذي أقبل بنهم على ملذات هذه الدنيا لأنه ليس بالغافل حتى يرى جمال دنياه ولا يجتلي..ه