عدد المساهمات : 1784 تاريخ التسجيل : 23/05/2012 العمر : 33 الموقع : البصرة
موضوع: رحلة الحج -دروس وعبر الأحد نوفمبر 17, 2013 9:13 pm
رحلة الحج.. دروس وعبر
على الخطيب - باحث دراسات إسلامية
لا يختلف أحد على أن الرحلة إلى البيت العتيق لا تعدلها رحلة أخرى إلى أي بقعة من الأرض، وشوق المسلم إلى هذه الديار شوق مشبوب بالعاطفة الملتهبة، والتي تجيش بالود والمحبة، حتى إن الدمع ليسيل منحدرًا على الوجنات لمجرد ذكر هذه المناسك، فكيف بالذهاب إليها؟! ورؤية البيت ومعايشة الحجيج، وربط الماضي بالحاضر بالمستقبل، وذوبان الإنسان في وحدة شعورية متصلة، تبقى ذكراها في مخيلته زمنًا لا تنمحي.. وكم في هذه الرحلة من عظات ودروس مستفادة، ووقفات ولمحات ونفحات!
h11_25946455_opt.jpegومن بين هذه الدروس المستفادة من رحلة الحج ما يلي:
التجرد لله تعالى
وهو ما يعني سلامة القصد، وصدق التوجه إليه سبحانه، أو بمعنى آخر انخلاع النفس وانعتاقها من كل ما يحيط بها، وتخلصها من جميع ما يأسرها ويشدها إلى الأرض، ويبدو ذلك واضحًا عندما يلبس الحاج ملابس الإحرام.. تلك الثياب البيض أقرب ما تكون شبهًا بأكفان الموتى، والتي ليس فيها ما اعتاده الإنسان، فيصبح منقطعًا عن أسباب الدنيا.. إذ يترك الحاج أهله ووطنه وماله وتجارته؛ ليصفو بنفسه في آفاق علية ومكارم سنية.
الأسوة والاقتداء
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}.. أي اقتداء بأبي الأنبياء الخليل إبراهيم عليه السلام، الذي ترك وطنه وقومه وهاجر لله وقال: {إني مهاجر إلى ربي سيهدين}، وليس ذلك فحسب بل لقد ترك زوجه وولده لله أيضًا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ}.
وكذلك يفعل الحاج.. يترك الديار ويفارق الأهل والولدان فرارًا إلى الله، ولسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}.
وكل ما يصيبه في سيره إلى الله من مكروه وأذى فإنما يحتسبه عند ربه؛ ليقع الأجر والجزاء منه سبحانه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}. h29_25903751_opt.jpeg
ويرددون مع الشاعر العربي:
إِذَا فَارَقُوا دُنْيَاهُمُ فَارَقُوا الأذَى
وآتاهم موعود مَا في المصاحفِ
ومن ثم كان العطاء لهم أوفر، والمدد إليهم أسرع، والبر بهم أوفق. يقول عبدالقاهر الجرجاني: «إن من صحت تبعيته للرسول " صلى الله عليه وسلم" ألبسه درعه وخوذته، وقلده سيفه، ونحله من أدبه وشمائله وأخلاقه، وخلع عليه من خلعه، واشتد به فرحه، كيف هو من أمته؟ ويشكر ربه عز وجل على ذلك، ثم يجعله نائبًا له في أمته».
الإذعان والتسليم المطلق لله تعالى
ذلك أن المؤمن بالله تعالى يسلم تسليمًا تامًّا، ويذعن إذعانًا مطلقًا لمن أذمة الأمور كلها بيديه، ومرد ذلك عنده إلى أمرين اثنين:
الأول: الرضا عن الله الذي لا يأتي إلا بخير {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}.
الثاني: الثقة في وعده وفي منهجه: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجّةُ الْبَالِغَةُ}.
ومن ثم فقد تميز أصحاب النبي " صلى الله عليه وسلم" بهاتين الصفتين، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
ونجد ذلك واضحًا كل الوضوح فيما يلي:
موقف سيدنا إبراهيم- عليه السلام- من ذبح ولده إسماعيل.. فقد أمر إبراهيم عن طريق رؤيا رآها أن يذبح ولده إسماعيل، فلم يتردد أو يسأل عن السبب؛ حتى لا يقدح في إيمانه بربه ويقينه به وثقته فيه، بل أذعن إذعانًا خالصًا لم تشبه شائبة، يصحبه في ذلك كله الرضا عن الله في أمره ونهيه.. فقام من فوره مناديًا على ولده مخاطبًا إياه: يا إسماعيل إن الله قد أمرني بأمر قال: فافعل ما أمرك الله به. قال إبراهيم: وتعينني عليه؟ قال: وأعينك عليه. قال فإن الله أمرني أن أذبحك! قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين، وقد ذكر ابن عباس- رضي الله عنها- أن إسماعيل قال لأبيه: يا أبت اشدد رباطي كيلا أضطرب فينتضح على ثيابك من دمي شيء فينقص أجري وتراه أمي فتحزن، واشحذ شفرتك فيكون أهون بها على حلقي، وإن أردت أن ترد قميصي إلى أمي فافعل، عسى أن يكون أسلى لها عني.
وقد وصل الأمر من إسماعيل- عليه السلام- كما ذكر ابن عباس- رضي الله عنهما- عندما تلّه إبراهيم للجبين، وكان على إسماعيل قميص أبيض فقال له: يا أبت، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه، فعالجه ليخلعه فنودي من خلفة {أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا}.
وكذلك موقف هاجر عندما تركها إبراهيم في هذا الوادي بين الصفا والمروة.. قالت له يا إبراهيم: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لن يضيعنا. إنها تعلم بيقين أنه ما تركها إلا لتنفيذ أمر الله، فأذعنت وسلمت لله أمرها من قبل ومن بعد.
إعلان العداوة للشيطان وأعوانه
وليس هناك أوضح ولا أبين من إظهار هذه العداوة، ورفع شعارها في شعيرة رمي الجمرات «وذكر ابن كثير فيما رواه ابن عباس- رضي الله عنهما- أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه السلام، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات».
ومن المعلوم للمسلم ديانة {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}، ومن هنا فالحاج وهو يقوم برمي الجمرات يعلن شعار العداوة والكراهية للشيطان، كأنما يريد أن يقول له وهو يرجمه: لا سبيل ولا سلطان لك عليّ بعد اليوم، فلطالما أوردتني موارد الردى ومواطن الهلاك، هأنذا اليوم أرجمك قذفًا بالحجارة؛ لما تمثله من رمز الغواية والشرور.. فكم أشعلت من فتن، وهتكت من أستار، وقطعت من روابط، وأضرمت الأحقاد بين الناس، وأنا اليوم أجدد بيعتي لله في صعيد عرفات.. «لبيك اللهم لبيك»، ولذا قيل: إن الشيطان لم ير أحقر ولا أصغر من مثل هذا اليوم أبدًا.
البذل والتضحية
نرى ذلك واضحًا في موقف الخليل إبراهيم الذي ضحى بأغلى ما عنده.. ضحى بولده الذي جاءه وقد بلغ من الكبر عتيًّا، فلم يضّن به حرصًا على حياته، ولا شفقة عليه، بل لم يتردد لحظة في التضحية به تنفيذًا لأمر الله.. ولهذا وصفه ربه سبحانه بأنه وفّى لكل ما طلب منه {وإبراهيم الذي وفى}، لذلك استحق أن يكون للناس إمامًا، فقد ابتلي بابتلاءات عديدة فصبر، فآتاه الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
وتتمثل في:
الوحدة فكرًا وصبرًا.. فالبيت الذي يطوفون حوله هو بيت واحد (بيت الله الحرام)، والإله الذي يعبدونه إله واحد، والقبلة التي يتوجهون اليها في صلاتهم هي قبلة واحدة، والنسك التي يؤدونها واحدة لا اجتهاد فيها «خذوا عني مناسككم».. والزي الذي يرتدونه زي واحد، كما أن الهدف الذي جاءوا من أجله إلى هذا المكان هدف واحد، والنشيد الذي ينشدونه في عرفات الله نشيد واحد «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك».
- وحدة في الزمان {الحج أشهر معلومات}.
- وحدة في المكان (البيت الحرام).
- وحدة في الشعائر والمناسك {وليطوفوا بالبيت العتيق}.
- وحدة في المشاعر والعواطف.
إن عالمية الإسلام ورسالته الخالدة تبرز بوضوح والحجيج واقفون في عرفات الله بكل اللغات واللهجات والبلدان في زي واحد، وصعيد واحد، وشعار واحد، وزمان واحد، وفي الحج الأكبر أكبر وثيقة تكريم للإنسانية، فيها من حفظ الدماء وصيانة الأعراض وحماية الزوجات ما فيها.. وتبقى خطبة الوداع شاهدًا للمسلمين وعزهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وفي الحج الأكبر يرتفع الأمل ويتحقق الرجاء بأن المسلمين هم صنّاع المجد، أصحاب العلم والفقه والدين الذي يصلح وجه الأرض، ويزين الدنيا من أقصاها إلى أقصاها.. فإن الدين قد تم، والنعمة قد كملت، {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا}.
يقول " صلى الله عليه وسلم" : «بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين» (رواه البيهقي وابن حبان)، ويقول أيضًا: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها».
نعم قد يضعف المسلمون أو يصيبهم الوهن، وقد يديل العدو عليهم بخيله ورجله في سنة وغفلة، لكنه لن يغلبهم أو يقضي عليهم، فإن هذا الدين منصور محفوظ ما بقي الليل والنهار.
إن الحج الأكبر هو مؤتمر المسلمين ورمز توحدهم وقوتهم.. شريطة أن يترجم ذلك إلى عمل متواصل لإعادة الأمجاد الخالدة، والتاريخ التليد، والقيم الأصيلة التي تجعل للمسلمين عيدًا تتجدد شمسه، وترتفع أعلامه، ويسعد رجاله ونساؤه ويقولون: متى هو؟!